الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
لا يخفى على المتابع للحراك الشرعي المحلي والإقليمي التراد المتبادل بين طلاب العلم وأشياع الدعوة الإسلامية، وهذا وإن كان - في الغالب - يقع عرَضاً على سبيل العتب المقبول مدفوعاً بالنصح.
إلا أن ثمة تلاوماً وتراشقاً، يقع استثناء، لكنه – على قلته - يورث احتقانات ومغاضبات توهن عقد الأخوة الثابت بقواطع النصوص، قال تعالى: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال(63)].
وهذا وضع يوجب على الكل الاحتساب والقيام لله تعالى بعدم التفرق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " من الأمر بالمعروف: الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة" [مجموع الفتاوي (3/ 421)] .
على أن المناشط العلمية والدعوية التي يضطلع بها هؤلاء وهؤلاء هي من قبيل القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، والظن إن شاء الله بمن تصدى لها أن يرعى حق الله فيها تجرداً وإخلاصاً، " وإن وقع اختلاف ولكل واحد من الناظرين وجه صحيح: ارتفعت المسألة خلافيةً كما كانت العلماء العاملون.
والبحث في المسائل الفقهية وإجراؤها على الأصول الصحيحة مع صحة النية من أفضل العبادات وأقرب القربات وأعظم الوسائل إلى الله " [الونشريسي؛ المعيار المعرب (5/ 22)] . وما كان من هذا القبيل فهو أولى بأن يصان عن تقارض اللوم بين من علم نصحه بلا ضرورة داعية ولا مصلحة راجحة، وإنما هو شحن النفوس واستغضاب الإخوان.
وهذا قد يزهد الآخرين في الحق الذي مع هذا وهذا، فإن مثل هذه الخلافات والخصومات توحش النفوس، وفي عهد المأمون ارتد رجل مسلم إلى النصرانية فقال له المأمون: أخبرنا عن الشيء الذي أوحشك من ديننا، فقال: " أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم". . الخ القصة وفيها جواب حكيم للمأمون فليراجع [ابن قتيبة؛ عيون الأخبار (2/ 154)] .
وهذه المبادرة لا تقول للناس اسكتوا، فإن الله لم يخلق إنساناً ليسكت، وإنما علمه البيان ليبين إما وجوباً وإما استحباباً، ولذا يقال: قولوا لإخوانكم حسناً ولا تقصوهم، كما أخذ الله علينا وعلى الذين من قبلنا ميثاقاً بذلك فقال:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة 83- 84]، فها أنت ترى الله جل جلاله يلوم بني إسرائيل على إقصاء إخوانهم والتظاهر عليهم بغير حق، وهذا كله من البغي الذميم.
الاختلاف قديم:
لقد أطبق أهل العلم على أن الاختلاف في الشرعيات الاجتهاديات من الأمر القديم، وأن تباين الأطياف المذهبية لا يحل رباط الأخوة الإسلامية، ولا يفل حديد الأنظار الاجتهادية، بل يذكيها ويثريها، يحدثنا الإمام يحيى بن سعيد الأنصاري عن عراقة الألوان الاجتهادية.
فيقول: " ما برح المستفتون يستفتون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرِّم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه " [ابن عبدالبر؛ جامع بين العلم وفضله (1057)] ، إذن كان حق الاختيار مكفولاً لكل مؤهل.
وسواء كان ذاك في دقيق المسائل ونادرها أو جليلها مما يكثر تناوله ويستفيض النزاع فيه، بل إن كبار المسائل التي تتفاوت فيها الأنظار أولى بالعذر، فإن " ما كثر فيه الاجتهاد كثر فيه الخطأ، وما قل قل " كما يعبر علماء الأصول.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية " [مجموع الفتاوي (3/ 229)]
وقد كان الأئمة - عليهم الرحمة - يراعون مراتب الإنكار، ويجتنبون الإنكار على المخالف فيما يدخله الاجتهاد من المسائل، وإن كانوا يرون المنع، لأنهم يرون أن لكل إنسان ذمة ومسؤولية خاصة، فعن محمد بن يحيى الكسائي: دخل الإمام أحمد بن حنبل على خلف بن هشام البزار.
وكان في المجلس قنينة نبيذ فحوّل أحمد ظهره إليها وأقبل على خلف يسأله، فقال له خلف لما أراد الانصراف: أي شيء تقول في هذا يا أبا عبد الله فقال: ليس ذاك إلي ذاك إليك، قال خلف: كيف؟ ، فقال أحمد: قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والرجل راع في منزله ومسئول عما فيه، وليس للخارج أن يغير على الداخل شيئاً، قال: فلما خرج سكبت خابيتين وعاهدت الله على أن لا أذوقه حتى أعرض على الله عز وجل [ابن أبي يعلى؛ طبقات الحنابلة (1/ 153)] .
الأخوة العلمية:
لقد كان التناول لمسائل الدين – وما زال - يجري على قانون الاجتهاد، للمصيب أجران وللمخطئ أجر، وهو يتأسس على قاعدة التحاور والتشاور: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} [الشورى (38)] ، وتنتظم مجالسه ورسائله بحبل الأخوة الإسلامية التي لا يفصمها شيء.
ولو كان القتال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} [الحجرات (10)] ، وعليه فإن التئام صفوف العلماء وطلبة العلم، وسعي الجميع في امتهاد سبيل العلم والعمل، يقضي بالتعاون على البر والتقوى، والتعاذر في مسائل الاجتهاد، واستصلاح الخطأ الاجتهادي بأقل ما يمكن من الأضرار النفسية، بحصر الخطأ في دائرة الخطأ.
شروط المعالجة:
أمرنا الله تعالى بنصرة الحق والقيام به مع اصطحاب جميل الظن بمن له سابقة خير ما أمكن، ومعالجة الخلاف – لو كان - بموضوعية وإعذار وعدل وإنصاف، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران: 103].
وربنا الذي أمرنا بهذه النصرة هو من يحث على التراحم بين المؤمنين، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح 27- 28]. فذكر في نسق واحد نصرة الحق والتراحم بين المؤمنين.
وهذا كان ديدن الأئمة والمحققين من أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء (59)] وكانوا يتناظرون مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية "اهـ [مجموع الفتاوي (24/ 172)].
ولم يكونوا يقومون على المخطئ في اجتهاده الناصح في قوله؛ قومة تبديع وهجران بل هو النصح والمذاكرة، قال الذهبي تعليقاً على الخلاف الواقع بين الإمام محمد بن نصر المروزي وابن منده: " لو أنّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة " [السير ()] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " أهل السنة يستعملون معهم – أي المخالفين – العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض " [منهاج السنة النبوية (5/ 157)] .
ومن شروط معالجة الخطأ استصحاب رباط الأخوة العلمية القاضية بإحسان الظن، فإن العلم رحم بين أهله، وذمة بين المشتغلين به، كما قال أبو الطيب:
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة. . إن المعارف في أهل النهى ذمم
وأخطاء المحسن المجتهد ترتب واجبين: النصح له في خطئه وحفظ مقامه، ولا يقوم أحد الواجبين مقام الآخر، بل لا يحصل مقصود أحدهما على التمام إلا بالآخر. وأما إساءة الظنون بأهل الخير فمحدث في الإسلام كالأخذ بالظنة [انظر: البلاذري؛ أنساب الأشراف (4/ 228)] .
وخارطة الطريق الموصلة إلى تكريس الأغلاط في معالجة الأخطاء تمر بثلاث محطات: زلة من عالم يتبعها ردود بالحق تارة وبالهوى تارة أخرى، وإمضاء لأحكام هذا الهوى الخاطئ، وقد روي في معنى هذا الرسم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أخاف على أمتي من ثلاث: زلة عالم، ومن هـ وى متبع، ومن حكم جائر) ، وإنما تدفن الزلات إذا لم تشايعها الأهواء، لها أو عليها.
الإلزام بالمتفق عليه:
قال الإمام أحمد: من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحملهم على مذهبه ويشدد عليهم، وقال في رواية ابن القاسم: إنما ينبغي أن يؤمر الناس بالأمر البين الذي لا شك فيه، وليت الناس إذا أمروا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه [ابن مفلح؛ الآداب الشرعية (2/ 133)] .
عن ابن عائذ قال: دخل ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد والناس في صلاة العصر قد فرغوا من صلاة الظهر، فصلوا مع الناس، فلما فرغوا قال بعضهم لبعض: كيف صنعتم؟ ، قال أحدهم: جعلتها الظهر ثم صليت العصر، وقال الآخر: جعلتها العصر ثم صليت الظهر، وقال الآخر: جعلتها للمسجد ثم صليت الظهر والعصر، فلم يعب بعضهم على بعض [البيهقي؛ السنن الكبرى (3/ 87)]
الإطاحة الذميمة:
قيل للقاضي النضر بن سلمة (302هـ): إن محمد بن أسباط يقع فيك ويتناولك، وعليك أن تهدمه! ، فقال النضر: " لا والله لا أتعرض لذلك، ولا أهدم من بناه الله "اهـ [الخشني؛ قضاة قرطبة (228)]
والهدم في هذا السياق معناه: الإطاحة والإسقاط، وهذا الاقتراح الذي عُرض على القاضي المذكور لا يزال يعرض على كل عالم، ولو أن كل متخالفين في مسائل الاجتهاد سعى كل واحد منهما في التطويح بصاحبه لم يبق للناس أحد، وعاد هذا ضرراً على الحق الذي تحملته رقابهم، والدين لا يقوم به واحد ولا اثنان، حتى تقوم به وتسعى في إحيائه جماعات أهل العلم والإيمان، كما قيل:
إذا العبء الثقيل توزعته. . رقاب القوم خف على الرقاب
قال ابن القيم: " لو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها " [مدارج السالكين (2/ 39)]
وقد جرت العادة أن من أمضى لسانه وقلمه في ذوي الفضل نقص فضله بقدر ذلك كما قيل:
لا تضع من عظيم قدرٍ وإن كنت مشاراً إليه بالتعظيمِ
فالجليل العظيم ينقص قدراً بالتعدي على الجليل العظيمِ
سنة التصافح:
والمؤمنون قلوبهم أنُفٌ على سجية الفطرة، لا تحمل الحقد القديم، ولا تمسك السخيمة، وقد كانت العرب في الجاهلية يأخذ بعضهم بعضاً بالأوتار والثأر، فلما جاء الإسلام حث على العفو والصفح، ووضع الدماء التي لم يدرك بها ثأر، وألف القلوب ونفى شح النفوس وغسل الأحقاد والذحول، فصارت العداوة سِلماً، والبغضة حباً.
وقد خطب النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة على درجة البيت فقال: "ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي" [أخرجه أبو داود من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه (4549)].
وأخبر أن أعمال المسلم لا ترفع إذا كانت بينه وبين أخيه شحناء فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: " عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس. فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا» [مسلم (2565)] .
ومن كان بالله أعلم كان إلى لين القلب أقرب وعن الجفاء أبعد، ومن ثم استمر عمل العلماء في القديم على تلطيف أخلاق الناس واطراح عوالق الجفاء فيهم، قال الإمام مالك: " إذا قلّت العلماء ظهر في الناس الجفاء " [الخطيب؛ الفقيه والمتفقه (149)].
فها أنت ترى أن العلماء وطلبة العلم هم ملح البلد ورياحين الزمان، التي تفيض على الأرض معاني الحق والخير والبر، ويطلب منهم إفاضة هذه الكمالات على المسترشدين، والكمالات الخلقية لا تكون إلا بنقاء القلب من وساوس الضغينة والسخيمة والحسد، وباقي المكارم لا تحسن إلا مع هذا الطهر والاستنقاء، كما قيل:
ولا خير قبل الماء في الطيب كله وما الطيب إلا الماء قبل التطيب [اللخمي؛ الأدب والمروءة (20)] .
نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعز أولياءه ويؤلف بين قلوب المؤمنين إنه على كل شيء قدير، وصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: د. خالد المزيني
المصدر: موقع إسلاميات